بسم الله الرحمن الرحيم توكلت واعتمدت واستعنت بالله العلى العظيم الحق الحى الذى لا يموت ولا ينام اللهم صلى وسلم وبارك على اشرف وخاتم وافضل الرسل والمرسلين شفيع البشر عليه افضل الصلاه والسلام اما بعد
كان الظلام يجثم في عينيه ، حينما كان يتسلل إلى القرية الجبلية ، لفح البرد يصفع
وجهه بحدّة . قطرات الماء تنسرب تحت ملابسه ، وأوراق الشجر تثب في عينيه ، كلما ا انحدر به الجبل تملكه حذر وريبة ، فالحفر المتناثرة تغص بالماء ، والطرقات تتآكل
على مشارف المنحدرات السحيقة .
وبينما كان يشق ركام الليل ، إذ زلت قدمه من حيث لا يدري ، فانزلق في حفرة وطيئة .
تحسس ما حوله بتمعن ، فاطمأن بالا .. صعّد الزفرات المخنوقة ، وهمس بصوت خافت :
كهف الشيخ يوسف ، لا حول ولا قوة إلا بالله . تغيب الوجوه ، وتنقضي الأيام ، وتظلّ
الأرض أرضا . هاهي أنفاس الكهف تفعم أنفي فتوقظ ذاكرتي .
هذا الكهف الذي كنا نلجأ إليه أيام الحرب ، وما قدّر لي أن أعود إليه بعد ذلك .
مدّ يده الراجفة تتحسس جيوب أرديته البالية ، علّه يعثر على صندوق التبغ ، فغلقت بيده ورقة
سميكة ، تفحصها جيدا ، أشعل عود ثقاب . خطف نظرة عابرة فتبيّنها ، ضرب جبهته
بيده كأنه يستحث ذاكرته ، ومسح راحته بشعره الأشعث ، ثم تمتم لنفسه : زوجتي سلمى .. أين
أنت الآن . أشعل عودا آخر . حدّق في الصورة مرة أخرى ، حاول أن يستنهض الذكريات ،
تفرس ملامحه من خلال الصورة : ابتسامته الحانية تشّع بها شفتيّن دقيقتين
لا تلبث أن تومض في عينيّ عابثتين ، وهذه سلمى تلصق به مثل قطة أليفة .
خصلات شعرها الكستنائي تتمرد على جبينها ، وابتسامتها الندية تغالب شفتيها القرمزيتين ،
وعيناها الخضراوان تنمان عن بهجة مرحة .
يتناهى إلى أذنه وحي يعبر السنين . يهتف به : لن أنساك .. سأظلّ لك حتى الرمق الأخير .
كان يهبط المنحدرات ، ورغبة ملحة تدفعه لفعل أي شيء ، تستبد به تلك الرغبة ، فيضغط قبضته
ويلوح بها في الهواء ، ثم يمضي خفيفا ، يطوي الشعاب الملتوية ، ويخوض الوادي السحيق .
ثم يتسلل عبر القنوات الضيقة ، فتغمره سحابة أمل دافئ . وتعبق بأنفه رائحة البلوط والشواء
تنبعث من البيوت التي تناثرت بأطراف القرية .
دلّف نحو الزقاق الذي يفضي إلى بيته العتيق ، مهد الصبا والذكرى .
نبضات قلبه تتسارع ، وأنفاسه لاهثة متواثبة ، وأطياف الذكرى تضطرب أمام
ناظريه . وماذا في جعبة الذكريات أحلى من بيته المتواضع البسيط ، فيه نشأ وترعرع وتنسم الحياة ، وفيه انبلج الحب منذ عرف سلمى .
وفيه أودع الذكريات منذ عام مضى .
كان في الهزيع الأخير من الليل ، حين أطبق جنود الاحتلال على المنزل ، أدرك
أنه سيعود إلى غياهب السجن ، ذلك السجن الذي ما أن يفلت منه حتى يرتد إليه
من جديد . لكنه حزم أمره وقرر أن يلوذ بالفرار .
سحب من سيجارته نفسا عميقا ، وحين كان يتسلق الجدار ، أحس وخزا يلسع
أعماقه ، تذكر المهمة التي أنيطت به ، لكنه سيلتقي سلمى ، ويقطف منها أشواقا
وحنينا ، صّعد الزفرات وتأفف : لربما تكون المرة الأخيرة .
سوف أعود إلى الرفاق قبل أن يأزف الموعد .
انزلق إلى فناء الدار ، توجس طريقه إلى البيت ، ذلك البيت الذي فاض بأحلى
الذكرى . فيه عرف سلمى ، وفيه شب الحب واشتعل الوجدان ، وفيه أثملته كؤوس
الهوى .
عدت إليك يا سلمى . سوف أحتضنك كطفل عادت إلى أمه أنفاس الحياة ، وأذيبك
في بحر وجدي علّنا نطفئ جذوة الحنين .
شعاع ضئيل يتسلل عبر الستائر ، يدنو من النافذة . يرهف السمع عله يشنف
أذنيه بأنفاس سلمى .
بغتة : يشعر وكأن قلبه تلاشى ، وأنفاسه تخمد .. ماذا يسمع ؟
تأوهات امرأة تعاني وطأة الغرام .
من سلبني بيتي وذكرياتي ؟ أين رحلت سلمى ، ومن تراه يقيم في منزلي ؟
أرهف السمع حذرا وجلا . يكاد أن يصرعه الشعور بالذعر والفزع .
إنها سلمى ، آهاتها الحرّى ، وتأوهاتها الماجنة .
أغمض عينيه وكأنه يحاول أن يتحرر مما هو فيه . يود لو أنه كان يحلم ، أن ينكر
ما تناهى إلى أذنه ، أن يتلاشى ، أو أن يتلاشى كل ما حوله .
قوة غامضة توقظ الأفاعي من سباتها .. ماذا تراه يفعل ؟
هل يكسر الباب ويحرق من في البيت ، أم تراه يندحر إلى ضفاف الهزيمة ذليلا مكسورا . تمالك نفسك أيها الرجل همس لنفسه .
تذكر الكوة الضيقة في أعلى الجدار ، تحسس ما حوله ، فعثر على صفيحة، اعتمد
عليها حتى أصبح في مستوى الكوة .
أحدّ ناظريه ، فلاحت له امرأة تلتف بغلالة حمراء ، تتوسد ذراع رجل ، كان ينكفئ
على وجهها ، ويرسل يده الأخرى في ثنايا جسدها .
ما تمنيت سواك يا سلمى ؟ همس الرجل
وأنا ما حلمت بغيرك يا سيد الرجال قالت تناغيه من خلال ضحكة مغناج .
صوت الرجل يستوطن ذاكرتي ، لكن ضبابا كثيفا يحول دون أن أستخرجه ،
إلى دائرة الضوء.
ينزلق بشفتيه على عنقها العاجيّ ، فتلقي برأسها خلف الوسادة ،
وينسكب شعرها كشلال ليل بهيم .
تنفث زفيرا تكتمت عليه تكتمت عليه شهوات أفعى ، وتشهق بأنفاس دفينة
تحررت من ركام الكبت والحرمان .
تطوقه بيدين راعشتين ، تضغط عليه بإحكام ، وترسل زفيرا لاهثا ،
ينغرز فم الرجل في صدرها ، وتنساب يده لتستقر حيث تكوير بطنها.
يرفع الرجل وجهه ، فيعرفه تماما .
يكتم صرخة كادت أن تنفلت : إنه هو .. المختار . وذاك سلاحه يتكئ على حافة
السرير .
ينزلق عن الصفيحة بصمت ، يهمس لنفسه ، النساء كالأوطان ، تدين لمن
ينتزعها .. لكن المختار من طينة أخرى ، يبيع الأوطان وينتزع النساء ،
عين الاحتلال ، ويده التي أجهضت بذور الثورة ، والتسوس الذي كسر جسر
الرجاء.
من زج بي في السجن سوى المختار ؟
كانت خلايا المقاومة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى ، والرجال يزج بها في غياهب
السجون . فينحسر الأمل ، ويعم الإحباط ، نكافح لرفع نير الاحتلال
وما علمنا أن المختار هو الاحتلال .
لن أنفذ المهمة همس لنفسه ،لن أقاتل جنديا وفي بيتي جحافل توطد أركان الاحتلال .
أطرق الرأس وأمعن فكره ، تحسس العبوات التي كانت تحيط به ، فضّ إحداها
وتنشق ما بها ، تماما كما توقع ، كانت مترعة بالكاز .
رفع العبوة حتى لامست الكوة ، سكب ما فيها بحذر شديد ، لم يشعرا به ،
فعواء الرياح يعلو ، والشهوة تعصف بهما .
كانت الستائر ومشجب الملابس ، والغرفة كلها تغرق بالكاز .
أشعل عود ثقاب وألقى به من خلال الكوة ، ثم أشعل عودا ثان وثالث ، حتى
اضطرمت النار واشتد سعيرها .
دب فيهما الذعر والفزع والاضطراب ، تراكضا باتجاه الباب ، لكن قبضته
كانت تتحكم به ،
أحس قوة شيطانية تدبّ في ساعديه ، كان المختار يدكّ الباب بقدميه وجسمه
ورأسه ، وسلمى تشد من أزره ، لكن الباب في قبضتي راسخ كالجدار,
حشرجة مخنوقة وصراخ مبتور يتخلله سعال متقطع ،
مختار .. افعل أي شئ ، سوف أموت
وأنا يا سلمى .. أشعر بالانهيار ردّ عليها من خلال نشيج متقطع .
تضطرم النار ، والدخان يتصاعد ، شعر بالنار كأنها تأكل الباب ، فيده تكاد أن
تحترق ، لكن قبضته ما تزال تحكم الباب .
أصوات ارتطام داخل الغرفة ، خيل له أن سلمى والمختار في الرمق الأخير
أحدهما يشد الآخر ، يتعانقان ..
عناق الموت
سكن الصراخ والنشيج والأنين .. حتى النار كأنها خمدت
وداعا يا سلمى قالها وطيف ابتسامة يغازل شفتيه ،
تذكرّ الموعد ، لم يأزف بعد ,
وثب نحو الشارع ، وانطلق يطوي الشعاب ، والمنحدرات السحيقة .
همس لنفسه ، بعد أن اتكأ على جذع شجرة هرمة ، وسحب نفسا عميقا من سيجارته
ونفث الدخان من خلال ابتسامة واثقة :
بالتأكيد ، أستطيع الآن .. أن أنفذ المهمة .
كان الظلام يجثم في عينيه ، حينما كان يتسلل إلى القرية الجبلية ، لفح البرد يصفع
وجهه بحدّة . قطرات الماء تنسرب تحت ملابسه ، وأوراق الشجر تثب في عينيه ، كلما ا انحدر به الجبل تملكه حذر وريبة ، فالحفر المتناثرة تغص بالماء ، والطرقات تتآكل
على مشارف المنحدرات السحيقة .
وبينما كان يشق ركام الليل ، إذ زلت قدمه من حيث لا يدري ، فانزلق في حفرة وطيئة .
تحسس ما حوله بتمعن ، فاطمأن بالا .. صعّد الزفرات المخنوقة ، وهمس بصوت خافت :
كهف الشيخ يوسف ، لا حول ولا قوة إلا بالله . تغيب الوجوه ، وتنقضي الأيام ، وتظلّ
الأرض أرضا . هاهي أنفاس الكهف تفعم أنفي فتوقظ ذاكرتي .
هذا الكهف الذي كنا نلجأ إليه أيام الحرب ، وما قدّر لي أن أعود إليه بعد ذلك .
مدّ يده الراجفة تتحسس جيوب أرديته البالية ، علّه يعثر على صندوق التبغ ، فغلقت بيده ورقة
سميكة ، تفحصها جيدا ، أشعل عود ثقاب . خطف نظرة عابرة فتبيّنها ، ضرب جبهته
بيده كأنه يستحث ذاكرته ، ومسح راحته بشعره الأشعث ، ثم تمتم لنفسه : زوجتي سلمى .. أين
أنت الآن . أشعل عودا آخر . حدّق في الصورة مرة أخرى ، حاول أن يستنهض الذكريات ،
تفرس ملامحه من خلال الصورة : ابتسامته الحانية تشّع بها شفتيّن دقيقتين
لا تلبث أن تومض في عينيّ عابثتين ، وهذه سلمى تلصق به مثل قطة أليفة .
خصلات شعرها الكستنائي تتمرد على جبينها ، وابتسامتها الندية تغالب شفتيها القرمزيتين ،
وعيناها الخضراوان تنمان عن بهجة مرحة .
يتناهى إلى أذنه وحي يعبر السنين . يهتف به : لن أنساك .. سأظلّ لك حتى الرمق الأخير .
كان يهبط المنحدرات ، ورغبة ملحة تدفعه لفعل أي شيء ، تستبد به تلك الرغبة ، فيضغط قبضته
ويلوح بها في الهواء ، ثم يمضي خفيفا ، يطوي الشعاب الملتوية ، ويخوض الوادي السحيق .
ثم يتسلل عبر القنوات الضيقة ، فتغمره سحابة أمل دافئ . وتعبق بأنفه رائحة البلوط والشواء
تنبعث من البيوت التي تناثرت بأطراف القرية .
دلّف نحو الزقاق الذي يفضي إلى بيته العتيق ، مهد الصبا والذكرى .
نبضات قلبه تتسارع ، وأنفاسه لاهثة متواثبة ، وأطياف الذكرى تضطرب أمام
ناظريه . وماذا في جعبة الذكريات أحلى من بيته المتواضع البسيط ، فيه نشأ وترعرع وتنسم الحياة ، وفيه انبلج الحب منذ عرف سلمى .
وفيه أودع الذكريات منذ عام مضى .
كان في الهزيع الأخير من الليل ، حين أطبق جنود الاحتلال على المنزل ، أدرك
أنه سيعود إلى غياهب السجن ، ذلك السجن الذي ما أن يفلت منه حتى يرتد إليه
من جديد . لكنه حزم أمره وقرر أن يلوذ بالفرار .
سحب من سيجارته نفسا عميقا ، وحين كان يتسلق الجدار ، أحس وخزا يلسع
أعماقه ، تذكر المهمة التي أنيطت به ، لكنه سيلتقي سلمى ، ويقطف منها أشواقا
وحنينا ، صّعد الزفرات وتأفف : لربما تكون المرة الأخيرة .
سوف أعود إلى الرفاق قبل أن يأزف الموعد .
انزلق إلى فناء الدار ، توجس طريقه إلى البيت ، ذلك البيت الذي فاض بأحلى
الذكرى . فيه عرف سلمى ، وفيه شب الحب واشتعل الوجدان ، وفيه أثملته كؤوس
الهوى .
عدت إليك يا سلمى . سوف أحتضنك كطفل عادت إلى أمه أنفاس الحياة ، وأذيبك
في بحر وجدي علّنا نطفئ جذوة الحنين .
شعاع ضئيل يتسلل عبر الستائر ، يدنو من النافذة . يرهف السمع عله يشنف
أذنيه بأنفاس سلمى .
بغتة : يشعر وكأن قلبه تلاشى ، وأنفاسه تخمد .. ماذا يسمع ؟
تأوهات امرأة تعاني وطأة الغرام .
من سلبني بيتي وذكرياتي ؟ أين رحلت سلمى ، ومن تراه يقيم في منزلي ؟
أرهف السمع حذرا وجلا . يكاد أن يصرعه الشعور بالذعر والفزع .
إنها سلمى ، آهاتها الحرّى ، وتأوهاتها الماجنة .
أغمض عينيه وكأنه يحاول أن يتحرر مما هو فيه . يود لو أنه كان يحلم ، أن ينكر
ما تناهى إلى أذنه ، أن يتلاشى ، أو أن يتلاشى كل ما حوله .
قوة غامضة توقظ الأفاعي من سباتها .. ماذا تراه يفعل ؟
هل يكسر الباب ويحرق من في البيت ، أم تراه يندحر إلى ضفاف الهزيمة ذليلا مكسورا . تمالك نفسك أيها الرجل همس لنفسه .
تذكر الكوة الضيقة في أعلى الجدار ، تحسس ما حوله ، فعثر على صفيحة، اعتمد
عليها حتى أصبح في مستوى الكوة .
أحدّ ناظريه ، فلاحت له امرأة تلتف بغلالة حمراء ، تتوسد ذراع رجل ، كان ينكفئ
على وجهها ، ويرسل يده الأخرى في ثنايا جسدها .
ما تمنيت سواك يا سلمى ؟ همس الرجل
وأنا ما حلمت بغيرك يا سيد الرجال قالت تناغيه من خلال ضحكة مغناج .
صوت الرجل يستوطن ذاكرتي ، لكن ضبابا كثيفا يحول دون أن أستخرجه ،
إلى دائرة الضوء.
ينزلق بشفتيه على عنقها العاجيّ ، فتلقي برأسها خلف الوسادة ،
وينسكب شعرها كشلال ليل بهيم .
تنفث زفيرا تكتمت عليه تكتمت عليه شهوات أفعى ، وتشهق بأنفاس دفينة
تحررت من ركام الكبت والحرمان .
تطوقه بيدين راعشتين ، تضغط عليه بإحكام ، وترسل زفيرا لاهثا ،
ينغرز فم الرجل في صدرها ، وتنساب يده لتستقر حيث تكوير بطنها.
يرفع الرجل وجهه ، فيعرفه تماما .
يكتم صرخة كادت أن تنفلت : إنه هو .. المختار . وذاك سلاحه يتكئ على حافة
السرير .
ينزلق عن الصفيحة بصمت ، يهمس لنفسه ، النساء كالأوطان ، تدين لمن
ينتزعها .. لكن المختار من طينة أخرى ، يبيع الأوطان وينتزع النساء ،
عين الاحتلال ، ويده التي أجهضت بذور الثورة ، والتسوس الذي كسر جسر
الرجاء.
من زج بي في السجن سوى المختار ؟
كانت خلايا المقاومة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى ، والرجال يزج بها في غياهب
السجون . فينحسر الأمل ، ويعم الإحباط ، نكافح لرفع نير الاحتلال
وما علمنا أن المختار هو الاحتلال .
لن أنفذ المهمة همس لنفسه ،لن أقاتل جنديا وفي بيتي جحافل توطد أركان الاحتلال .
أطرق الرأس وأمعن فكره ، تحسس العبوات التي كانت تحيط به ، فضّ إحداها
وتنشق ما بها ، تماما كما توقع ، كانت مترعة بالكاز .
رفع العبوة حتى لامست الكوة ، سكب ما فيها بحذر شديد ، لم يشعرا به ،
فعواء الرياح يعلو ، والشهوة تعصف بهما .
كانت الستائر ومشجب الملابس ، والغرفة كلها تغرق بالكاز .
أشعل عود ثقاب وألقى به من خلال الكوة ، ثم أشعل عودا ثان وثالث ، حتى
اضطرمت النار واشتد سعيرها .
دب فيهما الذعر والفزع والاضطراب ، تراكضا باتجاه الباب ، لكن قبضته
كانت تتحكم به ،
أحس قوة شيطانية تدبّ في ساعديه ، كان المختار يدكّ الباب بقدميه وجسمه
ورأسه ، وسلمى تشد من أزره ، لكن الباب في قبضتي راسخ كالجدار,
حشرجة مخنوقة وصراخ مبتور يتخلله سعال متقطع ،
مختار .. افعل أي شئ ، سوف أموت
وأنا يا سلمى .. أشعر بالانهيار ردّ عليها من خلال نشيج متقطع .
تضطرم النار ، والدخان يتصاعد ، شعر بالنار كأنها تأكل الباب ، فيده تكاد أن
تحترق ، لكن قبضته ما تزال تحكم الباب .
أصوات ارتطام داخل الغرفة ، خيل له أن سلمى والمختار في الرمق الأخير
أحدهما يشد الآخر ، يتعانقان ..
عناق الموت
سكن الصراخ والنشيج والأنين .. حتى النار كأنها خمدت
وداعا يا سلمى قالها وطيف ابتسامة يغازل شفتيه ،
تذكرّ الموعد ، لم يأزف بعد ,
وثب نحو الشارع ، وانطلق يطوي الشعاب ، والمنحدرات السحيقة .
همس لنفسه ، بعد أن اتكأ على جذع شجرة هرمة ، وسحب نفسا عميقا من سيجارته
ونفث الدخان من خلال ابتسامة واثقة :
بالتأكيد ، أستطيع الآن .. أن أنفذ المهمة .